الذاكرة الكونية: من آدم عليه السلام إلى العلم الحديث
ما يقوله علم النفس، علم الأعصاب، الفلسفة، والقرآن الكريم حول ذاكرة الماضي وذاكرة المستقبل الغيبي، وما علاقتها بآدم عليه السلام ؟
القسم الأول:
“حين يأتي الحلم قبل الحدث: عن الذاكرة التي تسبق الحياة”
1. ما قبل البداية: الذاكرة التي لا تفسرها الأحداث
قبل بضعة أشهر، رأيت نفسي في حلم غريب :
كنت أمشي في زقاق حجري ضيق، تُظلله شرفات خشبية وواجهات حجرية قديمة. كانت هناك لافتة مكتوبة بالإسبانية، وامرأة تنادي طفلها بلغة لم أفهمها، لكن نغمتها بدت مألوفة. أذكر شعور الحيرة في الحلم أكثر من أي شيء آخر…!
ليس لأنني كنت تائهًا، بل لأن شيئًا في داخلي كان يهمس: “ستفهم هذه اللغة قريبًا”.
بعد شهرين، التقيت بهذه اللغة مرة أخرى، لا في الحلم هذه المرة، بل في الواقع، في صف دراسي بدا كأنه تكرار باهت لصورة سبق أن عشتها. الغريب؟ أنني تعلمت الإسبانية بسرعة نسبيا بغيري أسرع مما توقّعت شخصيا !
كان يمكن لهذا أن يُسجَّل تحت خانة المصادفات… لولا أنه ترك سؤالًا يتردّد في ذهني حتى الآن:
هل نتعلم الأشياء لأول مرة؟ أم أننا نتذكّرها فقط؟
والعجيب ايضا ان الفكرة ليست جديدة ! ايضاً !
أفلاطون كتب عن “المعرفة التذكّريّة”، وكارل يونغ تحدث عن “اللاوعي الجمعي”، والقرآن الكريم أشار إلى ان ادم عليه السلام علمه الله الاسماء كلها، قبل أن يبدأ أول تجربة بشرية على الأرض.
في هذا المقال، أحاول تتبّع هذه الفكرة من جذورها الكبرى: من اللوح المحفوظ إلى الدماغ البشري، من عالم المثل إلى تلافيف الوعي، من سؤال الملائكة إلى قانون التدافع، ومن تذكّر الماضي… إلى احتمالية تذكّر المستقبل.
هل “الذاكرة” كما نعرفها، جزء صغير من ذاكرة أكبر؟
وهل نحيا داخل أجسادنا، أم في سرد طويل من المعاني التي نحاول استعادتها شيئًا فشيئًا؟
لم أكن الوحيد الذي عاش هذا… فهناك منكم من يحلم بلغة لم يتعلمها، أو يرى نفسه في مكان لم يزره بعد، ثم يكتشف لاحقًا أنه قد اختبره بطريقة ما….!
البعض يسمي هذا ديجا فو.
البعض يراه مصادفة.
لكنني أردت أن أفهمه كظاهرة معرفية، لا مجرد تقاطع غامض بين الحلم والواقع.
( تنويه : المقالة تمثل رأي شخصي بناءً على تدبر في القرآن الكريم ومكتسبات شخصية في الفلسفة وعلم النفس بتقاطع مع علم الاعصاب- الهدف دائما حث القارئ على التدبر الشخصي والتأمل في أفكاره ومكتسباته).
2. لماذا نشعر أننا نعرف ما لم نختبره؟
في علم الأعصاب المعرفي، يُعرف هذا النوع من الظواهر بـ”الذاكرة المستقبلية” أو anticipatory memory – وهي ليست مجرد توقع عقلي، بل شعور داخلي يشبه الاستذكار، مع غياب واضح للمصدر الزمني.
قد تبدو فكرة “تذكّر شيء لم يحدث بعد” أقرب للخيال منها للعلم، لكنها وجدت حظها في دراسات حديثة، خاصة في مجال ما يسمى بـالعقل التنبؤي.
الدماغ، بحسب هذه النظرية، لا ينتظر البيانات الحسية كي يُدرك الواقع، بل يعمل دائمًا على بناء نماذج داخلية للعالم، تُحدث باستمرار.
بمعنى آخر: نحن لا “نرى” الواقع، بل “نتوقعه”، ونصحح تصوراتنا فقط حين يتضح أنها خاطئة.
هذه النماذج الإدراكية ليست مبنية على ما تعلمناه فحسب، بل ربما – كما تقول بعض فرضيات علم النفس – على ما وُلدنا ونحن نحمله.
3. عندما تتكلم الفطرة بلغة لم نسمعها
المثير هنا ليس فقط أن الدماغ يتنبأ، بل أنه يتصرف أحيانًا وكأنه يتذكر وظاهرة “ديجا فو” هي الوجه الشعبي لهذا. ..، لكن ثمة شيء اخر :
أشخاص يحلمون بلغات لم يتعلموها، ثم يتعلمونها لاحقًا بسرعة (مثل الحلم خاصتي).
فنانون يرسمون أشكالًا لم يُدرّبوا على تقنياتها، ويكتشفون لاحقًا أنها تنتمي لمدارس فنية محددة.
اشخاص تاتيهم إلهامات من الحلم، تخص تطوير مشاريع او حس فني فيهم.
أطفال في عمر صغير يبدون وكأنهم يعرفون أشياء لا تفسير لاكتسابها.
كل هذا يفتح الباب أمام سؤال مؤرق:
هل بعض المعرفة فطرية؟ وهل ما نسميه “تعلّمًا” هو في حقيقته “تذكّر”؟
القسم الثاني:
حين يتذكر الدماغ ما لم يره: أفلاطون، والتنبؤ، واللاوعي المعرفي
1. أفلاطون: المعرفة ليست مكتسبة، بل مفقودة
في حوارات أفلاطون، وخاصة في محاورة مينو يقدّم طرحًا غير مألوف حول المعرفة فيقول إن كل تعلم هو تذكّر (anamnesis)، وأن النفس كانت تعلم كل شيء قبل أن تُولد.
وفق هذه الرؤية، لا يوجد شيء نتعلمه للمرة الأولى ! بل نحن فقط نتذكّر ما نسيناه لحظة دخولنا الجسد، كما لو أن ولادتنا لم تكن خلقًا من العدم، بل نقلًا من وعي أوسع إلى وعي محدود.
هذه الفكرة، رغم بُعدها الميتافيزيقي، تجد صدى مثيرًا في العلوم الحديثة، ولو بلغة مختلفة.
ففي مجال علم الأعصاب، بدأ بعض الباحثين يعيدون التفكير في أن الدماغ البشري ليس مجرد متلقٍ، بل صانع نشط للواقع – عقل يعمل بالافتراض، لا الاستجابة.
2. العقل التنبؤي: حين يُبنى الواقع من الداخل
في دراسة مؤثرة، كتب Andy Clark ما أسماه “الدماغ التنبؤي” (predictive brain)، حيث يرى أن العقل البشري أشبه بـ”آلة استباقية”، لا تنتظر البيانات الحسية لتفهم العالم، بل تتوقعها مسبقًا ثم تُصحح أخطاء توقعها بناءً على ما يحدث بالفعل.
تخيل أنك تدخل غرفة للمرة الأولى، ومع ذلك تشعر أنك تعرف أين يكون مفتاح الإضاءة هذا ليس عبثيا، بل لأن دماغك بنى نموذجًا داخليًا من غرف مشابهة والمفاجأة ليست أن تعرف ! بل أن تتصرّف وكأنك تعرف.
لكن ماذا لو تجاوز الأمر النماذج السطحية إلى معرفة عميقة غير مفسرة؟
ماذا لو كانت هناك “نماذج داخلية” لم تُبنى من التجربة، بل من شيء أقدم؟
شيء أقرب إلى ما يسميه كارل يونغ “اللاوعي الجمعي”، أو ما يسميه أفلاطون “عالم المُثل”؟
3. بين أفلاطون وكلارك: إعادة التفكير في الفطرة
الفكرة التي تتقاطع هنا مذهلة:
في العلم، العقل يبني النماذج ويتوقع المستقبل.
في الفلسفة، النفس تحمل النماذج منذ الأزل.
وفي الدين، كما سنرى في القسم الثالث، المعرفة العليا عُلِّمت لآدم عليه السلام من قبل، لكنها محجوبة بالنية وتُستخرج بالسعي.
هل هذا يعني أننا لا نتعلم من الخارج، بل نُستفز لنُعيد بناء ما هو موجود في داخلنا؟
وهل يمكن أن يكون الحلم – بما فيه من رمزية وحُرية منطقية – هو أحد نوافذ هذا التذكّر؟
تتوافق هذه الأطروحات مع ما تُظهره الدراسات في “الذاكرة الضمنية” (implicit memory)، وهي تلك التي لا ندرك أننا نحملها لكنها تؤثر في سلوكنا، قراراتنا، وحتى تعلمنا…، ربما ما نراه على شكل “حدس”، أو “رؤية داخلية”، أو حتى “شعور غير مبرر بالمعرفة” ليس وهمًا نفسيًا..!
بل صوتًا خافتًا لطبقة أعمق من الذاكرة… طبقة تسبق الزمان واللغة.
في القسم القادم، سأنتقل من هذه الأرضية المعرفية–العصبية، إلى السياق القرآني:
كيف قدّم النص القرآني أول نموذج هرمي للمعرفة؟
ولماذا جاءت ايات إعلان خلق آدم في سورة البقرة بهذا الترتيب؟
وكيف يلتقي معنى الاية الكريمة (وعلّم آدم الأسماء كلها) مع فكرة أفلاطون عن المعرفة السابقة، ويُعيد صياغتها ضمن خطاب إنساني–إلهي متكامل؟
القسم الثالث:
من “الأسماء” إلى “الخلافة”: الذاكرة كشرط للوجود الإنساني
1. آيات اعلان الخليفة في سورة البقرة: ترتيب ليس عشوائيًا
حين نقرأ ايات التي تنص على خلق آدم عليه السلام واعلانه خليفة في الأرض من سورة البقرة، نجد أنفسنا داخل مشهد تأسيسي كبير لا يقل عن كونه بيانًا أوليًا عن طبيعة الإنسان ومكانته في العالم:
﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً﴾
﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾
﴿قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾
﴿وَعَلَّمَ آدَمَ ٱلأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾…
ليس في هذا الترتيب عبثيا !
وحسب تدبري فان الخلافة لا تُمنح قبل أن يُعلَّم آدم، والعلم لا يُذكر قبل بيان إمكانية الفساد، والملائكة لا تعترض على الخلق بل على ما قد يفعله هذا “الخليفة” باسم العلم.
في هذه اللحظة، يفتح النص نافذة على طبيعة الإنسان المزدوجة:
فهو كائن قادر على الإفساد، والدماء، أي أنه يحمل النفس الأمّارة بالسوء.
وهو في ذات الوقت، كائن قابل للتسبيح والتقديس، حين يسير وفق إرادة الخالق.
وهنا، يتدخل العلم، لا بوصفه معرفة حيادية، بل كأداة اختيار:
إما أن يُستخدم في الهدم، أو في البناء…،
إما أن يكون ذاكرة الفطرة، أو ذاكرة الحرب!!
2. “وعلّم آدم الأسماء كلها”: المعرفة شرط للوجود
الآية الرابعة في هذا السياق هي محور السرد القرآني:
﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾.
لكن… ما “الأسماء”؟
هل هي مفردات لغوية؟ مفاهيم عقلية؟ رموز؟ أشكال؟ علوم؟
د. نعمان علي خان (احد الدارسين والمعلمين في التدبر بايات الله) في تفسيره لهذه الآية، يرى أن الأسماء تشمل:
المفاهيم المجردة كالحب، العدل، الرحمة، الخوف.
التصنيفات المعرفية الأولى: نبات، حيوان، جماد، بشر.
اللغة، كأداة وعي وتفكيك للعالم.
توازيًا مع هذا التفسير، يقدم أفلاطون في “عالم المُثل” تصورًا مشابهًا:
أن هناك مفاهيم كونية سابقة للمادة، موجودة في بُعد غير مادي، تتذكرها النفس حين تواجه شبيهًا لها في الواقع…! لكن النص القرآني يقدم إضافة حاسمة:
المعرفة ليست فقط موجودة مسبقًا، بل تم “تعليمها” لآدم كفعل إلهي مباشر.
وهنا، يتغير موقع الإنسان من متلقٍّ إلى فاعل – من صورة إلى صوت.
3. الهرم المعرفي: من اللوح إلى العقل
حين نتأمل تسلسل المفاهيم المعرفية في النص القرآني، نجد أن القرآن لا يتعامل مع “العلم” ككتلة واحدة، بل كـ تدرج هرمي دقيق، يبدأ من مصدر كوني محفوظ، ويهبط تدريجيًا حتى يصل إلى الإدراك البشري الواعي.
يمكن تلخيص هذا البناء في ثلاثة مستويات رئيسية، تربط السماء بالأرض، والغيب بالشهادة، والمطلق بالمحدود:
الطبقة الأولى:
اللوح المحفوظ – الذاكرة الكونية
هنا نبدأ من الأعلى، من مصدر ما فوق بشري.
“اللوح المحفوظ” في القرآن ليس مجرد مخزن للنصوص، بل هو مستودع لما يسميه الفلاسفة المُثل الأولى – مفاهيم الوجود في صورتها النقية، قبل أن تتلبس باللغة أو التجربة.
يشبه هذا تمامًا ما تصوّره أفلاطون في “نظرية المُثل”، حيث يرى أن العالم المادي ليس إلا ظلًا لعالم أعلى، توجد فيه الحقيقة بصورتها الأصلية:
العدل الكامل، الجمال المطلق، الخير في ذاته… كلها موجودة هناك، ونحن لا نملك منها في حياتنا إلا شذرات.
وهكذا، فإن كل معرفة تنحدر من اللوح المحفوظ، هي معرفة سابقة للزمن، فوق التجربة، لكنها تنتظر من الإنسان أن يستدعيها (بالنوايا والسعي).
الطبقة الثانية:
الروح – اللاوعي الجمعي والفطرة
عند انتقال النفس من العدم إلى الوجود، يحدث حدث غامض:
﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي﴾.
في هذه اللحظة، يُزرع في الإنسان شيء من العلو، من المصدر.
اضافة للوعي التام، تاتي قابلية داخلية لاستقبال الحقيقة والشوق إليها.
هذا ما سمّاه القرآن الكريم بـ”الفطرة”، وسماه كارل يونغ مؤسس علم النفس بـ”اللاوعي الجمعي” اي ذلك المخزن العميق، الارضية اللامادية واللامحسوسة التي يشترك فيه البشر جميعًا والتي تُولد فيها الصور الكبرى والمعاني البدئية.
الفطرة لا تُلقّن لكنها تُستثار..، هي البذرة التي إن سُقيت، تحولت إلى وعي وهنا يأتي دور “السعي” كشرط لتحريك الطبقات.
الطبقة الثالثة:
الإدراك الواعي – التعلم، التسمية، التفكيك
وهنا نصل إلى السطح:
العقل البشري الواعي، بما فيه من قدرة على التحليل، اللغة، التفكير، والمقارنة.
هذه هي المنطقة التي يعمل فيها “العلم الحديث”، والمناهج، والمدارس، والتجريب.
لكن هذا المستوى، رغم سطوته في عصرنا ليس المصدر كما يعتقد البعض !
هو مجرد الترجمة النهائية لما هو أعمق منه.
بمعنى أن الإنسان حين يتعلم شيئًا جديدًا، فإنما يُحرّك داخله مستويات أقدم، حتى إن ظنّ أن العملية كلها خارجية…، إن هذا الهرم يجعل من كل اكتشاف علمي، أو لحظة وعي، أو حتى حدس، عودة تدريجية إلى الأعلى “الى وعي آدم” تمامًا كما قال أفلاطون: التعلم تذكّر، وكما قال القرآن الكريم:
﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾
أي:
“عهِدنا إلى آدم”: أي أودعنا فيه علمًا، ووعيًا، وفطرة نقية.
“فنسي”: فكانت النتيجة هي السقوط من الوعي الكامل إلى التجربة الزمنية المحدودة.
“ولم نجد له عزمًا”: كناية عن قابلية الضعف الإنساني، والانخداع بالوهم، والتأثر بالمحيط
وكأنّ المعرفة الأصلية كانت مزروعة، محفوظة في وعي أعلى…! لكن الأرض تتطلب سعيًا، وتذكّرًا، واسترجاعًا متعبًا لكل ما ضاع عند الهبوط،
وقال سبحانه وتعالى:
﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾.
هكذا تتداخل الفلسفة والقرآن، والعلم والمعرفة الروحية، في رسم خريطة واحدة:
أن نعرف، يعني أن نعود..،
القسم الرابع:
الخلافة كذاكرة: بين المعرفة والعمل
1. لماذا لم يبق آدم في السماء؟
من منظور دنيوي، تبدو قصة آدم عليه السلام وكأنها هبوط من الفردوس.
لكن من منظور قرآني، هذا الانتقال لم يكن عقوبة فقط، بل تحقيق لغاية أسمى.
﴿إني جاعل في الأرض خليفة﴾
﴿ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى﴾
الخلافة ليست مقامًا أدنى، بل مسؤولية أعلى: أن تبني في عالم فيه احتمالات الفساد والخير معًا.
أن تُمارس الذاكرة لا فقط في الحلم، بل في الفعل.
وهنا تظهر حكمة ترتيب الايات في سورة البقرة:
أولًا: الخلافة كنية إلهية.
ثانيًا: القول الملائكي الذي يكشف عن وجود جانب مظلم في الإنسان.
ثالثًا: تعليم الأسماء كدليل أن هذا المخلوق رغم خطورته يملك شيئًا لا تملكه الملائكة: القدرة على تسمية العالم، أي على إدراكه، وفهمه، وتغييره، والله يعلم ما لا تعلمه كل الكائنات عن حكمة خلقه هذا !
هذا هو جوهر الإنسان:
كائن ذاكر، ينسى.
كائن فطري، يتشوش.
لكن حين يتذكر، يتفوق !
2. التذكّر بوصفه عملًا: من المعرفة إلى التعمير
حين يقول الله عز وجل في آية:
﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾
فهو لا يتحدث عن علم نظري، بل عن “تذكّر حيّ”، أي أن تزكّي النفس لتُصبح قناة نظيفة لما أُودع فيها من العلم الأول.
والفلاح هنا لا يعني النجاة الفردية فقط، بل النجاح في أداء وظيفة الخلافة:
﴿قل اعملوا فسيرى الله عملكم﴾
فكما أن المعرفة تعني استرجاع ما نُسي ! فإن العمل هو اختبار صدق هذا الاسترجاع (وانسب مثال قصص الانبياء مع اختبار النسيان)
ليس كل من يذكر يتذكّر، وليس كل من يعرف يعمل.
في هذا السياق، يصبح الإنسان مشروعًا مفتوحًا:
كل لحظة وعي، حلم، فعل، هي محاولة لإعادة الاتصال بالمصدر الأول.
كل قرار أخلاقي هو عملية استرجاع لصوت قديم… صوت النفس وهي تعرف الحق حين كانت في العُلى.
3. وماذا عن الحلم؟
في نهاية الرحلة، نعود إلى الحلم الذي بدأ منها كل شيء:
حين وقفت في تلك الزقاق الإسبانية في المنام، كنت أجهل ما أُحيطني به، لكنني لم أكن خائفًا.
شيء ما طمأنني بأني سأتعلم اللغة !
اللغة التي تعلّمتها لاحقًا لم تأتِ من الصفر، بل بدت كما لو أنها عادت، كأن في عقلي خيوطًا رقيقة تذكّرت شكلها… وصوتها…! وهكذا، ربما لا يكون الحلم غامضًا كما نظن، بل هو – كما قال أحد الفلاسفة (الى جانب ان الحلم أداة روحية عالية…)
قال “اللغة التي يتكلم بها اللاوعي حين يشتاق لأن يُسمع.”
ختاما لهذا الموضوع،
أن تكون خليفة، يعني أن تتذكّر جيدًا
القرآن لا يكتفي بأن يُعرّف الإنسان من حيث قدرته على التفكير، أو حتى على الإيمان.
بل يضعه في موقع دقيق:
كائن مسؤول عن استعادة ما نُفخ فيه، وتفعيله على الأرض.
﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾
﴿إني أعلم ما لا تعلمون﴾
﴿ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض﴾
هذه الآيات الثلاث، حين تُقرأ معًا، تقدم مفتاحًا وجوديًا:
أن العلم سابق للفعل، لكنه لا يكتمل إلا به.
أن الخير والشر موجودان فينا، وما يُرجّح أحدهما هو نوع الذاكرة التي نحتكم إليها.
أن الخلافة لا تُمارس بسلطة، بل بصدق: في التذكر، والعمل، والعودة الدائمة إلى الأصل.
ملحق تفاعلي (للقارئ المتأمل)
جرّب أن تحتفظ بدفتر لأحلامك لمدة عشرين يوماً على الاقل.
هل تلاحظ أن بعض أحلامك تتحقق؟
هل تحوي رموزًا متكررة لا تجد لها تفسيرًا مباشرًا؟اسأل نفسك بصدق:
ما الشيء الذي لطالما شعرت أنك “تعرفه”، رغم أنك لم تتعلّمه؟
هل يمكن أن يكون هذا تذكّرًا… لا تعلّمًا؟
-
كان ومازال الموضوع جداً قمة في التأمل وهناك العديد من الايات الكريمة التي تنتمي لتدبر وتحليل في ذات السياق ليتوسع اكثر واكثر !
في النهاية اترك لك يا عزيزي القارئ بابا مفتوحا للتامل والبحث والتحليل…،
أتمنى لقاءك في مقالة تأملية، تحليلية، تدبريّة اخرى
في أمان الله وحفظه
مقال ثري جدًا والترابط جميل ما بين القرآن وبقية العلوم …
كنتُ أشاهد مقطع فيديو للشيخ : أحمد السيد وكان الموضوع عن باب اداء الأمانة وان الأمانة عُرضت على الارض والجبال فأبين ان يحملنها وحملها الانسان وذلك لعظم التكليف والمسوؤلية وقال أيضًا :
أن هناك شيء في ذاكرتنا أو في تاريخنا بيننا وبين الله سبحانه وتعالى لا نستحضره الآن وهو ما جاء في قوله تعالى : ”وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ“. وقال ان هذا الاشهاد أثره الفطرة ، هي الفطرة التي ركزها الله في النفوس أن تعرف النفوس ربها . ( فمن عرف نفسه عرف ربه ) وحتى في عالم الأرواح يقال ما تعارف هناك في عالم الذر يتعارف هنا في الدنيا .
كما جاء في الحديث (الأرواح جنود مجندة ) .
" كائن مسؤول عن استعادة ما نُفخ فيه، وتفعيله على الأرض " .
هذا الاقتباس اختصر كل شي ، ان يعبد الإنسان ربه ويزكي نفسه حتى يبصر ويرى بنور الله وبعدها تقوم بدورك كخليفة بتنفيذ مراد الله في إعمار الارض في اي مجال من مجالات الحياة ، متمسكًا بالقيم الإنسانية ، داعياً غيره لطاعة الله وامتثال اوامره وهذه الدعوة هي حقيقة هذه الأمة التي أكسبتها صفة الخيرية ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ .
- مع انه لدي تساؤلًات كثيرة حول عالم الذر والأرواح إلا ان المرء يخشى ان يُدخل نفسه في أمور لا ينبغي له الخوض فيها خصوصًا في مسألة الروح التي اختص اله بعلمها .
بارك الله فيك ونفع بك …
كل صدق، لم أقرأ منذ زمن مقالًا يجمع بين العمق الفلسفي، والطرح العلمي، والتأمل القرآني بهذه السلاسة والجمال!
هذا النص ليس مجرد مقال، بل رحلة فكرية وروحية تسافر بنا من الحلم إلى الفطرة، ومن الدماغ إلى اللوح المحفوظ، لتعيد صياغة علاقتنا بالمعرفة والذاكرة والذات.
توقفت كثيرًا عند سؤال: هل نحن نتعلّم أم نتذكّر؟
وأدهشني الربط بين آية ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾، ونظرية أفلاطون في التذكّر، ونماذج علم الأعصاب الحديث… وكأن الخط الإلهي، والفلسفي، والعلمي يتقاطع في نقطة واحدة:
أن الإنسان يحمل في داخله معرفة أعمق من أن تُكتسب فقط… إنها تُستدعى.
شكرًا من القلب لهذا الطرح، وللأفق الذي فتحته لنا في فهم ذواتنا.
بانتظار المقال القادم بكل شغف!